ترند بوست – متابعات
محصول البلاد “الأغلى من الذهب”.. السوريون يتجهون لزراعة جديدة تدر لهم أرباح كبيرة
بعين خبيرة ويد لا تُخطئ، تتفحّص “عربيّة عبده” شجيرات الورد الصغيرة، وتعرف تماماً أيّ الورود حان قطافها، وأيّها تحتاج يوماً أو يومين. “من يوم الله خلقنا ونحنا عايشين بحقول الورد”، تقول المرأة السبعينية مبتسمة وتمدّ يدها نحوي بوردة كبيرة، مضيفة: “هذه رائحة الورد الطبيعي. لن تجدي له مثيلاً إلا هنا”.
بجوارها، كانت زوجة ابنها “سريا عباس” تقطف الورود بطريقة لا تقل مهارة وخفة عن حماتها. وإلى جانبها يلعب ابنها الصغير الذي لم يتجاوز عمره بضعة أعوام.
“يقع العبء الأكبر لكل ما يتعلق بالوردة الشامية على عاتق النساء اللواتي يهيئن الأرض وقت الزراعة ويقطفن الورد ثم يحضّرن المنتجات بعد القطاف. لولا نساء قرية المراح لما استمرت هذه الوردة”، بحسب سريا التي يرتفع صوتها ممازحة من حولها. وتدور بعض النقاشات باللغة التركية التي يستخدمها أهالي القرية في تواصلهم اليومي بين بعضهم البعض، في حين يتحدثون للقادمين من أماكن أخرى بالعامية السورية.
لقطاف الوردة الشامية موسم محدد يمتد بين 15 مايو/ أيار و10 يونيو/ حزيران، ومكان أصبح معروفا: قرية المراح.
هذه القرية، الواقعة في جبال القلمون قرب دمشق على ارتفاع 1500 متر، تعتبر من أهم مناطق إنتاج الوردة الشامية التي أغرت تجاراً كثيرين لشرائها وتصديرها منذ زمن بعيد.
زرتها في فجر أحد أيام شهر مايو/ أيار، حيث كان سكان القرية – وعددهم حوالي خمسة آلاف شخص أغلبهم من التركمان – يسرعون باتجاه حقولهم.
“نتعلم القطاف منذ الصغر”
يوميا في هذه الفترة من السنة، بين الخامسة والثامنة صباحاً، تتحول مئات الدونمات المحيطة بالقرية الصغيرة إلى ما يشبه المهرجان؛ إذ تتمايل النساء بحركات منتظمة ليقطفن برقّة وعناية الورود ذات اللون الزهري المتداخل مع الأبيض ويضعنها في سلال ودلاء صغيرة أو جيوب قماشية معلقة على الخصر، ويعمل بعض الأطفال والرجال إلى جانبهنّ، وتنتشر في كامل المنطقة رائحة أخّاذة يفخر المزارعون بها كلما كانت فوّاحة أكثر، فهي تدل على جودة المحصول وحسن الاعتناء به.
يصفون محصولهم بأنه “أغلى من الذهب” و”أهم من النفط”.
تشرح لي عربيّة أن الورود الصغيرة التي لم تتفتح بعد، والتي تُعرف باسم “الأزرار”، هي الأفضل للتجفيف والاستخدام كأعشاب تُغلى، فلها خواص مقاومة للبرد والمرض، بينما يمكن استخلاص ماء الورد وزيته من الورود الأكبر، كما أنها قد تحوّل إلى مربى أو شراب الورد. “لكل وردة الوقت الأنسب لقطافها، وأحياناً يكون الفرق ساعات أو أياماً بين واحدة وأخرى”.
تعلّق سريا، زوجة ابنها الثلاثينية، بالقول: “كما كل نساء القرية، نتعلّم القطاف منذ الصغر. وبقدر ما أحب هذا الأمر، بقدر ما هي مؤلمة أشواك الورود التي تمتلئ بها أيدينا كل يوم”. وهنا تضحك عربية لأن “نساء الجيل الأصغر أقل خشونة وقدرة على تحمل مشاق الحياة الريفية”.
لدى سريا حكاية أخرى، فهي طالبة جامعية حرمتها الحرب من متابعة تعليمها في دمشق، وزادت صعوبة التنقل من المشاكل التي واجهتها؛ فتلك المنطقة عاشت بعض فصول المعارك خلال السنوات الماضية. وهي أيضاً معلّمة للغة الإنجليزية في إحدى مدارس القرية.
“أهملت الوردة” بسبب الحرب
عانت الوردة الشامية من تبعات الحرب السورية خلال السنوات الماضية؛ حيث أُجبر الفلاحون على التخلي لبضع سنوات عن أراضيهم نتيجة العمليات العسكرية التي شهدتها منطقة القلمون، وانخفضت مساحة الأراضي المزروعة بالورد من 2000 دونم إلى قرابة الألف، كما أثّر الطقس الجاف لسنوات متتالية على محصول الوردة وجودته.
يقول منصور عباس، وهو مهندس زراعي وعضو مجلس رابطة الفلاحين بالمراح، إن: “الخوف هو فعلاً ما شعرنا به خلال أيام الحرب. الخوف على وردتنا، وهي أثمن ما نملك”.
وضاعف ارتفاع أسعار المحروقات اللازمة للحراثة ونقص اليد العاملة، خاصة الخبيرة، نتيجة الخسائر البشرية والاقتصادية الكبيرة التي ألمّت بالبلاد من تكاليف إنتاج الوردة، ودفع البعض لإهمالها.
ويشير منصور إلى دعم وزارة الزراعة في ما يخص المياه والمحروقات، والذي يساعد المزراعين على إعادة تأهيل الأراضي التي خرجت عن الخدمة.
“نهدف للوصول لأكثر من ألفي دونم من جديد”، يقول الرجل الأربعيني وهو يقطف الورود من حقله الصغير قبل أن يتوجه إلى وظيفته، وإلى جانبه تلعب ابنته الصغيرة “ورد الشام” التي سُميت بهذا الاسم تيمناً بوردة المراح لولادتها في شهر يونيو، موسم القطاف.
تسرد أم برهان، وهي من نساء المراح، تلك الصعوبات بطريقتها، حيث تتحدث عن ازدياد أعباء النساء بشكل خاص مع سفر ووفاة الرجال والشباب، وتقول بحزن: “الزراعة للرجال والقطاف وما بعده هو من مهام النساء المعروفات بصبرهنّ، لكن الحرب غيّرت كل شيء”.
ومع سفر زوجها وابنيها وبقاء ابن واحد فقط في دمشق بغرض الدراسة، تحوّلت أم برهان لمشرفة على زراعة أرض العائلة والاعتناء بمحصول الوردة الشامية، وباتت مضطرة للاستعانة بعمال لتنفيذ بعض المهام الشاقة كالحراثة والتي كانت عادة من نصيب الذكور. وتقول “كل شيء اليوم أصبح صعباً ومكلفاً”.
إلى جانب ذلك، تجد الوردة الشامية صعوبات في التسويق والبيع، فنقل الورود إلى الأسواق الداخلية والخارجية، والاعتماد على التجار الذين كانوا يحضرون إلى سوريا لشراء كميات كبيرة وتصديرها بغرض استخراج الماء والزيت العطري منها لم يعد سهلاً كما كان قبل الحرب.
200 دولار للغرام
لا تنتهي حكاية الوردة الشامية عند قطافها، بل إن المهام الحقيقية تبدأ بعد هذا، كما تقول إيمان عباس، وهي من أهالي المراح.
بعد تجميع الورود الصغيرة التي لم تتفتح بعد، أو “الأزرار”، تعمل إيمان مع والدتها وأختيها على تجفيفها، وذلك بنشرها في الهواء الطلق بشكل معين يضمن وصول أشعة الشمس لكل منها، ومراقبتها للتأكد من عدم تعرضها للحشرات الضارة، ومن ثم إعادة جمعها في التوقيت المناسب.
تشير الفتاة العشرينية إلى أن كل ثلاثة كيلوغرامات ونصف من الورود تُنتج كيلوغراماً من الورد اليابس الذي يُباع في الأسواق، خاصة سوق البزورية القديم في دمشق، ويُسمى “الزهورات”.
كما تصنع نساء القرية من الورود الشراب والمربى والتوابل بوصفات ومقادير خاصة يبرعن بها.
وفي منزل آخر غير بعيد، يستخرج أبو قصي ماء الورد من الوردة الشامية باستخدام جهاز يدعى “الكركة”، حيث يحتاج إلى كيلوغرام واحد لتقطير لتر من الماء المركّز الذي يستخدم كمستحضر طبّي ذي خواص مفيدة للبشرة، وأيضاً في صناعة بعض أنواع الحلويات الشرقية التي تشتهر بها سوريا وغيرها من بلدان المنطقة.
وتحتوي القرية على عدد محدود من أجهزة “الكرك” التي لا تكفي لتقطير كامل محصول الورد. ويؤدي ذلك لضياع كميات منه دون فائدة حيث تتعرض للذبول.
ويجري الرجل الستيني بمساعدة عائلته تجارب بدائية لاستخراج زيت الورد الذي يعتبر بنظر أهل القرية الثروة الأكبر والمنتج الأكثر تكلفة وأيضاً صعوبة، حيث يحتاج الكيلوغرام إلى ما لا يقل عن طن من بتلات الورد، ويمكن بيع الغرام الواحد بما يقارب 200 دولار أمريكي.
يمسك أبو قصي زجاجة زيت صغيرة، يتنشق الجميع عطرها الفواح، ويستذكرون حكايات عن تاجر يهودي كان يزور قريتهم أوائل القرن الماضي لشراء كامل محصول الوردة الشامية لتصديره إلى أوروبا بغرض استخراج الزيوت المستخدمة في صناعة العطور الفاخرة. ويأمل أبو قصي أن تتمكن كل العائلات من تقطير محصول الورد الخاص بها، وأيضاً من صناعة الزيت العطري ومن ثم تسويقه.
“قريتنا تمتلك ثروة لا تقدر بثمن، ويجب أن تكون هذه الوردة سفيرتنا نحو العالم”، كما قال لي وأنا أغادر القرية في طريقي إلى دمشق.