بعد أكثر من 100 عام .. العثور على كنز لا يقدر بثمن في حلب ومفاجأة ظهرت بداخله (صور)
يعرف عن مدينة حلب التي صنفت كأقدم مدينة مأهولة في التاريخ بكثرة وتنوع آثارها، التي تفاجأ المؤرخون وكتّاب التاريخ، وحتى علماء الآثار، بظهورها بعد مئات السنين، حتى أن هذه المدينة غيرت مسيرة كتابات تاريخية عدة مرات.
وعلى الرغم من الاعتداءات المقصودة التي تعرضت لها حضارة ومعالم تاريخ الشهباء خلال الحرب التي طالتها، وما نتج عن تلك الاعتداءات من تدمير تلك المعالم، ما زالت حلب تفاجئ القاصي والداني بما تحمله في جعبتها.
ويقول بعض المؤرخين وعلماء الآثار أيضاً: إنه “في أسفل مدينة حلب يوجد مدينة أو مدينتين حتى، الأمر الذي يتم اكتشاف أجزاء منه بين الحين والآخر (اكتشاف جدران أقبية قديمة أثناء أعمال تأهيل الصرف الصحي في طلعة السبع بحرات)”.
المقدمة السابقة هي مدخل لا بد منه لسرد قصة “كنز أبكر الأرمني”، و هو عبارة عن صندوق خشبي عتيق بقي قابعاً منتظراً لأكثر من 100 عام، لا أحد يعلم ما بداخله سوى القلة القليلة من أفراد العائلة التي توارثته، حتى لحظة اكتشافه.
هذا الصندوق الذي تركه صاحبه “أبكر كناجيان” وحيداً دون عودة، حضر الحروب العالمية بجزأيها، مع جملة أخرى من الحروب والآلاف من القذائف التي لم تخترقه، فهو ذاكرة مدينة.. وذاكرة مدينة لا تموت.
صندوق خشبي يحتوي على أكثر من ١٥٠ قطعة من دمى كراكوز و عيواظ
قصة صندوق أبكر، يرويها الباحث التاريخي علاء السيد لـ “تلفزيون الخبر” بحسب ما رصد موقع الوسيلة عائداً لعام 1915، ليقول: “حين حمل الشاب الأرمني “أبكر كناجيان” (مواليد 1895) صندوقه الخشبي هارباً من المذابح التي كادت تصل إلى مدينته أورفا حالماً بإنقاذ موجودات صندوقه، بالقدر الذي يتمنى إنقاذ زوجته وأطفاله من الموت ذبحاً”.
وأضاف السيد “غيره حمل مصاغاً ذهبياً ليساعده على المعيشة بعدما فقد كل ما يملك، أما أبكر فحمل صندوقه الخشبي فقط حيث كان كنزه الوحيد”.
وتابع السيد سرد القصة قائلاً: “حينها كان الملجأ لسكان أورفا هو مدينة حلب، التي احتضنت الهاربين من المذبحة، وكانت بوصلة العائلة مع صندوقها إلى هناك”.
عند وصول العائلة لحلب ونجاتهم من المذابح التي طالت الأرمن من قبل الأتراك، “حافظت أسرة “أبكر” على الصندوق مغلقاً في مكان أمين، وتم توارثه أباً عن جد”.
ويبين السيد أنه “عندما توفي أبكر حوالي عام 1940 كان الصندوق أمانة في عنق ابنه أرتين، وعندما أنجب أرتين أكبر أبنائه بيدروس انتقلت الأمانة له”.
بيدروس هو بكل بساطة “أبو أرتين”، وهذا الاسم الذي يعرفه معظم السوريين هو ذاته “أبو أرتين” صاحب مطعم وفندق “أبو أرتين” الموجود في جبل أريحا، (المطعم المشهور، ليس محلياً فقط بل عالمياً حتى، بتقديمه وجبه “اللحمة بكرز” الفريدة من نوعها”.
وبعد وفاة أبو أرتين، حمل ابنه الأكبر “أرتين الابن” أمانة المطعم ومعها أمانة صندوق جده الأكبر “أبكر”، إلا أن المطعم والفندق دُمِرَا في أريحا بسبب الحرب، التي أجبرت العائلة على السفر خارج سوريا، ليبقى الصندوق وحيداً وتنتقل الأمانة لحجارة المدينة التي حمته منتظرةً أصحابه.
ويستمر الباحث التاريخي علاء السيد بإكمال القصة، نقلاً عن حديث حفيدة أبكر، الذي أصبح الصندوق أمانتها، وهي “سونا تاتويان”، التي عادت بعد اغتراب طويل لتبحث عن صندوق جدها.
وتقول سونا أنه “عندما طرحت “الأمانة السورية للتنمية” مشروع اعتبار كراكوز وعيواظ جزءاً من التراث السوري الإنساني واستطاعت البدء بمشروع إدراجه على لائحة “اليونسكو” للتراث العالمي، تواصلت مع الأمانة التي قدمت لها كل التسهيلات”.
وتابعت: “فور وصولي إلى حلب توجهت إلى حارة عائلتي القديمة، وأشعلت شمعة في مقام”مارجرجس الخضر” في باب النصر، لتبدأ عملية البحث عن الصندوق”.
وتكلل بحث سونا بالنجاح بعد عثورها على الصندوق القابع في حي الأرمن بحلب، سليماً وصامداً، لتظهر محتوياته للمرة الأولى للعالم، وهو “أكثر من 150 قطعة سليمة من الدمى الخاصة بمسرح “كراكوز وعيواظ” التي لا تقدر بثمن، وعمرها يتخطى الـ 104 أعوام”.
دموع سونا ( التي تحمل جنسيات عالمية: أرمنية وأمريكية) كانت سيدة الدقائق الأولى لاكتشاف محتويات الكنز، رأتها الحفيدة ساعات طويلة لم ترغب أن تنتهي.
أما جوابها عن السؤال الذي طرح عليها حول “هل تعتبرين تراث “كراكوز وعيواظ الذي حفظه جدك أبكر أرمنياً؟” فكان بكل ببساطة “نحن سوريون وأول ما فعلته عند وصولي إلى سوريا هو تقديم طلب لاستلام هويتي الشخصية السورية”.
ويشرح الباحث علاء السيد هنا أن “الجد “أبكر” كان من أهم صانعي دمى مسرح “كراكوز وعيواظ” في المنطقة”.
وأضاف “الدمى المكتشفة مصنوعة من جلد الجمل الذي يعالج حتى يصل لمرحلة الشفافية للضوء ثم يقص على شكل رجال ونساء وحيوانات و يلون بألوان طبيعية يدوياً”.
وذكر السيد أن “هذه الدمى تتميز بوجود مفاصل حركة لها، تجعلها تتحرك بسهولة بعد تعليقها بعصي خشبية لتقدم عروضاً مسرحية شعبية، كانت حينها البديل الوحيد عن السينما، ولاحقاً التلفزيون، اللذين لم يكونا اخترعا بعد”.
ولفت السيد إلى أنه “لا يوجد في العالم أجمع مجموعات كبيرة باقية من هذه الدمى، قبل اكتشاف صندوق أبكر، وما كان موجوداً من الدمى هو ما يعد على الأصابع”.
وأشار السيد إلى أن “مجموعة الدمى المتنوعة التي تم اكتشافها تعتبر دليلاً دامغاً على سوريّة مسرح كراكوز وعيواظ، وعلى تنوع شخصيات هذا المسرح وقصصه”.
وفكرة مسرح “كراكوز وعيواظ”، الذي يسمى أيضاً “مسرح خيال الظل”، كانت قديماً في حلب بوجود أربع أو خمس شخصيات فقط، بعدد مسرحيات محدود، عبر 12 نص مسرحي شعبي فقط.
أما كراكوز وعيواظ فهما شخصيتان في مسارح خيال الظل، ويعود أصلهما إلى العصر العثماني، والموضوع الرئيسي للمسرحية هو التفاعل المتناقض بين الشخصيتين، حيثُ يُمثل كراكوز الشخصية الأُمّيّة لكنه صريح، أما عواظ فيمثل الشخصية المثقفة التي تستخدم الشعر والأدب.
ويقول البعض إن “شخصيتي المسرح الذي سمي بهما، أي كراكوز وعواظ، هما رجلان حقيقيان، تبدأ قصتهما عندما أتى الحاج عوض (مهرج السلطان) بـ “قرة گوز” من الآستانة إلى بورصة بعدما طلب من السلطان أن يأتي بشخص آخر يساعده.
وفي مرة تكلما بكلام بذيء أمام حرم السلطان العثماني، فأمر السلطان بقطع رأسيهما، وبالفعل تم ذلك، وبعد فترة تذكر السُلطان الشخصين فأمر أن يحضرا لمهرجان كان يقام، فقال له “بكجي باشي” بأنهما أُعدما، فأخبر السلطان باشي بأن من يقطع رأسيهما ألحقت رأسه بهما، اذهب وائتني بهما.
وخرج الرجل وأخبر عبد الله الششتري بالقصة، فأمر عبد الله بإحضار جلود وقصها على هيئتهما، وأخبره بطريقة تحريك الجلود وتقليد أصواتهم، وعُرِض العرض على السلطان، وبعدها أخبر الششتري السلطان بالقصة، ليطلب منه أن تُخرَج إلى العامة في الأسواق فسمح بذلك.
يذكر أن التسجيلات الوحيدة الحية الباقية في العالم لمسرحيات “كراكوز وعيواظ” موجودة في مدينة حلب عبر الأرشيف الخاص بها للباحث التاريخي علاء السيد، والتي تعتبر متوارثة أيضاً أباً عن جد، والبالغ عددها 12 تسجيلاً صوتياً.