اكتشافات تقدر بالملايين.. مدينة سورية تعوم على بحر من الكنوز والسكان يتهافتون للتنقيب فيها
يحملون فؤوساً ومعاول، وأدوات حفر مختلفة، يحدوهم أمل كبير بأن يجدوا بعض اللقى الأثرية الصغيرة لبيعها. وبثمنها يشترون خبزاً وطعاماً لأفواه جائعة، تنتظر عودتهم.
هم أولئك الذين اتخذوا من باطن الأرض مصدراً لرزقهم، دفعتهم إلى ذلك ظروف اقتصادية شديدة القسوة، تخلفها حرب ضروس حامية الوطيس، تنهش بهم مع مرور كل لحظة منذ عدة سنوات خلت،…كيف لا؟، وهي ما تزال بتداعياتها، تحرق الأخضر واليابس، وتعيث، مع مرور كل يوم، دماراً وقتلاً وخراباً، بالبشر والضرع والحجر.
أبو قيس الحوراني، ناشط حقوقي، يقول “هؤلاء الرجال مثلهم مثل غيرهم من أكثرية أبناء الشعب السوري، كانوا يعملون بمهن مستقرة ووظائف حكومية مدينة وعسكرية مريحة،
تؤمن لهم دخولاً مادية تكفي احتياجاتهم الضرورية، وبعضاً من احتياجاتهم الكمالية، لكن ظروف الحرب والملاحقات الأمنية على الطرقات والحواجز،
وتوقف بعض المهن، جعلتهم بلا عمل، فدفعتهم الحاجة إلى البحث عن أعمال تحفظ ماء الوجه والكرامة على الأقل أمام أسرهم وأبنائهم، فتوجهوا إلى حفر القبور”.
ولفت الحوراني إلى أن أعمال التنقيب عن الآثار نشطت بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة من عمر الثورة، وذلك بعد أن فقد أغلب الناس مدخراتهم وأملاكهم ومصادر رزقهم، فتوجهوا للبحث عن الآثار،
عسى أن يفلح المنقب بالعثور على كنز ثمين يغنيه، أو لُقى أثرية صغيرة يستطيع بثمنها شراء احتياجاته الضرورية لعدة أيام.
واستطرد الحوراني: “تجد الأراضي الزراعية والتلال وما حولها مليئة بالمنقبين من كل الأعمار والفئات منهمكون بالحفر بمعاولهم، بحثاً عن الكنوز المطمورة في باطن الأرض، والتي كانت ذات يوم يتزين بها أجدادنا أو من سبقونا في العيش على هذه الأرض”.
وفي السياق نفسه، قال عبد الله الحميد، عامل بناء سابق، “لقد توقف عملنا في هذه الظروف لأن عمليات البناء توقفت بسبب التدمير الذي تقوم به طائرات النظام،
وكما ترى نخرج من ساعات الصباح الأولى إلى الأراضي التي تحتوي على قبور قديمة بيزنطية أو رومانية، نحفر أنا وشريكي قبراً أو قبرين في اليوم،
أحياناً نجد بعض اللقى الصغيرة، مثل الأساور والأقراط، ونبيعها لتجار الآثار والأنتيكة، بمبالغ زهيدة، لا تساوي جزءاً من تعبنا، ننفقها على احتياجاتنا اليومية”.
بدوره، مصطفى العيسى، موظف مفصول، يقول لـ “اقتصاد”: “أصبحت لدي أعمال التنقيب هوس فعلي،..نعم، أعثر على بعض اللقى وحظي جيد،
لكن ليس في كل الأوقات أعثر على شيء ذي أهمية”، وأضاف قائلاً “إن أكبر مبلغ تسلمته هو نحو خمسين ألف ليرة سورية،
وهو ثمن لمكحلة زجاجية قديمة، ولا أعلم إن كان هو ثمنها الفعلي أم لا، ولكن أشعر أن ثمنها أغلى من ذلك بكثير، لكننا لا نعرف القيم الحقيقية للُقانا الأثرية التي نعثر عليها، وتجار الآثار، نظراً لحاجتنا للنقود، يستغلونا بشكل بشع جداً”.
ويرى رضوان العمر، شرطي منشق، أنه من الضروري أن يتم استخراج هذه الكنوز القابعة في باطن الأرض والاستفادة منها بدلاً من بقائها،
وقال “نحن أولى بها من أولئك المسؤولين الذين ازدادت ثرواتهم من التنقيب عن الآثار، حيث كنا نرى معدات الحفر الثقيلة تأتي إلى قرانا تحفر لساعات قليلة، تستخرج ما في باطن الأرض، ثم يأخذها المسؤولون ويذهبون”.
بينما قال مسعود السيد، وهو شاب يافع، “إن التنقيب عن الآثار أصبح لديه عادة كأي عادة”، لافتاً إلى أنه يقوم بالتنقيب حتى وإن لم يعثر على شيء.
وأشار إلى أنه يقوم بأعمال تنقيب كثيرة ولكنها لا تسفر عن أية لقى ذات قيمة، وكل ما يعثر عليه لا يغطي جزءاً من بعض أتعابه، مبرراً عمله هذا بعدم وجود عمل دائم يستطيع الاعتماد عليه في إعالة أسرته باعتباره الأكبر فيها والمعيل الرئيسي لها.
وكانت دراسة أثرية قامت بها الدوائر الأثرية المختصة في محافظة درعا قبل أعوام من انطلاقة الثورة، أشارت إلى أن محافظة درعا الجنوبية، تعوم على بحر من الآثار، وهي تعتبر واحدة من أغنى المناطق الأثرية في سوريا.
وبينت الدراسة أن عدد المواقع الأثرية المعروفة في المحافظة يتجاوز 400 موقع، منتشرة في جميع أرجاء درعا، تم توثيق عدد منها لدى مديرية الآثار والمتاحف،
إضافة إلى توثيق آلاف القطع والمصنوعات الأثرية التي عُثر عليها في المواقع الأثرية المنتشرة في مناطق المحافظة المختلفة، والتي تم إيداعها صالات متحف درعا ومستودعات دائرة الآثار،
والتي تضم آثاراً تعود إلى ما قبل التاريخ البشري، وصولاً إلى آخر الحضارات الإنسانية التي عاشت واستوطنت هذه المنطقة من الجنوب السوري.
ما عُثر عليه هو غيض من فيض، هذا عدا عن الكميات الكبيرة التي تم بيعها خارج البلاد من قبل بعض المسؤولين من أزلام النظام، والتي يتواجد قسم منها في أعرق وأقدم المتاحف الأوروبية والعالمية.