لماذا أصبحت المكالمات الهاتفية أثقل على النفس من أي وقت مضى؟.. دراسة علمية تكشف السر!
لماذا أصبحت المكالمات الهاتفية أثقل على النفس من أي وقت مضى؟.. دراسة علمية تكشف السر!
“عندما تتصل بي، إذا كُنت أمي فسأرد، أما إذا كُنت شخصا آخر، وكان الأمر يمكن تأجيله، فيُمكنك كتابته في رسالة، إذا كان الأمر عاجلا ويتعلق بالحياة أو الموت،
فسننتقل إلى السؤال التالي: هل بيدي شيء أفعله لك؟ إذا لم يكن بيدي شيء فلا تتصل، فقط إذا كان بإمكاني منع الكارثة، ساعتها يمكنك الاتصال”. هذا باختصار المعنى الذي نقله رسم كاريكتوري انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي ليُعبِّر عن مدى كراهية البعض لاستقبال المكالمات الهاتفية والرد عليها.
على مستوى تواصلك الاجتماعي الشخصي، هل لاحظت أن الكثيرين من دائرتك المُقربة أصبحوا لا يُفضلون التواصل من خلال المكالمات الهاتفية، ويُفضلون عوضا عنها الرسائل المكتوبة أو الملفات الصوتية؟ أم هل لاحظت أنك ربما أصبحت كذلك؟ لا يقتصر الأمر على الأشخاص الغرباء عن بعضهم بعضا أو الذين ليسوا قريبين بما يكفي، بل قد يشمل حتى الأصدقاء والمقربين.
التواصل يتراجع درجة أخرى
وفقا لمنصة “هارفارد هيلث” التابعة لكلية الطب في جامعة هارفارد نفسها، لا تمنحنا الروابط والعلاقات الاجتماعية الحقيقية المتعة فحسب، بل إنها تؤثر أيضا على صحتنا على المدى الطويل بطرق عميقة مثل القدرة على الحصول على النوم الكافي، واتباع نظام غذائي جيد، وعدم التدخين.
هناك عشرات الدراسات التي تثبت أن الأشخاص الذين يتلقون دعما اجتماعيا من العائلة والأصدقاء ومجتمعهم يكونون أكثر سعادة، ويعانون من مشكلات صحية أقل، بل ويعيشون لفترة أطول.
على النقيض من ذلك، يرتبط الافتقار النسبي للروابط الاجتماعية بالاكتئاب والتدهور المعرفي في وقت لاحق من الحياة، فضلا عن زيادة معدل الوفيات. وجدت إحدى الدراسات، التي فحصت بيانات أكثر من 309 آلاف شخص، أن الافتقار إلى العلاقات القوية زاد من خطر الوفاة المبكرة الناتجة عن أسباب مختلفة بنسبة 50%، وهو تأثير يفوق تأثير السمنة وقلة النشاط البدني. (2)
يُصِرُّ الباحثون على أن التواصل وجها لوجه هو الشكل المثالي للتواصل، على أن يحدث هذا التواصل بشكل مباشر وشخصي وليس عبر الفيديو. يُشجع هذا النوع من التواصل على المزيد من التفاعل والمشاركة خاصة في العلاقات بين الأصدقاء، وكذلك خلال اجتماعات العمل.
غالبا ما يكون الاتصال وجها لوجه أكثر فعالية من المحادثات الكتابية أو الصوتية، هذا لأن رؤية بعضنا بعضا تُتيح لنا إدراك وفهم الإشارات غير اللفظية ولغة الجسد. هنا ينبغي الإشارة إلى أن النسبة الأكبر من فعالية تواصلنا تعتمد على الجانب غير اللفظي، لذا فإن القدرة على رؤية بعضنا بعضا تساعدنا على فهم بعضنا بشكل أفضل.
أشار تقرير نُشر في “Launch Workplaces” إلى أن 67% من المديرين التنفيذيين يقولون إن الإنتاجية ستزداد إذا تواصل الرؤساء وجها لوجه مع موظفيهم، وإن أنواعا معينة من المراسلات المكتوبة، مثل سلاسل البريد الإلكتروني، يمكن أن تستغرق وقتا طويلا للمراجعة والرد عليها مقارنة بالتواصل المباشر.
أيضا يقول نحو 96% من المديرين التنفيذيين إنهم يلاحظون ويُقدِّرون مساهمات الموظفين في المكتب أكثر بكثير من العمل المنجز من المنزل عن بُعد، وفقا لتقرير صدر عن منصة “Envoy”، الذي شمل 1000 موظف و250 مديرا تنفيذيا في الولايات المتحدة.
عندما لا يكون التواصل وجها لوجه متاحا، عادة ما تكون المكالمات الهاتفية أو الصوتية عموما هي الخيار الأفضل التالي، لأنها لا تزال تسمح لك بـ”التقاط” بعض السياق والمعنى من خلال نبرة الصوت. ومع ذلك، يتجاهل الناس الهاتف الآن بشكل متزايد لصالح تطبيقات الدردشة والرسائل النصية، ليس فقط في التواصل المهني، ولكن في التواصل الاجتماعي أيضا.
يمكننا هنا ملاحظة أن الزيارات العائلية قد قلَّت للغاية، ورُبما اختفت، لصالح المكالمات الهاتفية سابقا، التي وفَّرت لنا القدرة على الاطمئنان على أصدقائنا وعائلاتنا من خلال الاتصال بهم هاتفيا وسماع صوتهم، الآن أصبحت المكالمات الهاتفية ثقيلة ورُبما مُنفرة للكثيرين، وهو ما يعني أن التواصل يتراجع من جديد خطوة أخرى لصالح شكل جديد هو التواصل الرقمي الكتابي تحديدا.
يؤكد هذا التراجع دراسة أجرتها “Nielsen and Bobble AI” عام 2021، وهي منصة تسويق وسائط محادثة، توصلت الدراسة إلى أن 50% من المجيبين البالغ عددهم 900 شخص من الشباب الهندي تتراوح أعمارهم بين 18-40 عاما يُفضلون الرسائل النصية على مكالمات الصوت والفيديو. وفقا للدراسة فإن جيل الألفية يرى أن الدردشة عبر تطبيقات المراسلة المختلفة طريقة سهلة وممتعة للتواصل.
يوما بعد يوم، تحتل الرسائل النصية مكانا أكبر في الاتصالات اليومية على الصعيدين الشخصي والمهني. زاد عدد الرسائل المرسلة خلال العقد الماضي بأكثر من 7700%، حيث تُرسل أكثر من 23 مليار رسالة نصية كل يوم، أي 270 ألف رسالة نصية كل ثانية.
خلال استطلاع أُجري على 2000 مستهلك أميركي بشأن وسيلة التواصل المُفضلة لديهم، قال 37.6% من المجيبين إن الرسائل النصية هي وسيلة التواصل المفضلة لديهم، بينما قال 30.2% إن المكالمات الهاتفية هي وسيلتهم المُفضلة.
هامش من التباعد النفسي
وهنا يأتي السؤال الأهم: لماذا يحدث ذلك من الأساس؟ لماذا يصبح التواصل المباشر أثقل يوما بعد يوم؟ الإجابة المباشرة هي أننا حينما ننخرط في تواصل مباشر، فإننا نكون متورطين نفسيا، رُبما أكثر مما ينبغي، على سبيل المثال، في الحالات التي نشعر فيها بالتوتر الشديد أو القلق أو الحزن أو الغضب، قد يُصبح من الصعب التعامل بفاعلية مع هذه المشاعر القوية أثناء التواصل المباشر مع الغير، وهو ما يدفعنا إلى تجنبه، رغم مزاياه الواضحة مثل تعابير الوجه ولغة الجسد والتواصل البصري.
لقد أصبح التوتر سمة أساسية تُميز إيقاع الحياة الحديثة، التي تسيطر عليها كثرة المهام ومتطلبات الحياة والرغبة الدائمة في الإنجاز. هنا، قد لا ترغب في التعامل مع الآخرين تجنبا للمزيد من الضغوط، فتلجأ إلى التواصل الرقمي والرسائل النصية التي تحافظ لك على مسافة نفسية تفصلك عن الشخص الذي تتحدث معه. هذه المسافة النفسية توفر لك الشعور بالأمان الكافي، فلا ملامح وجه قد تخونك كما هو الحال في التواصل وجها لوجه، ولا نبرة صوت تنقل رغما عنك ما تود إخفاءه كما هو الحال مع المكالمات الهاتفية.
اتجاه البعض للابتعاد عن المكالمات الهاتفية الآن ليس من قبيل المصادفة إذن، وهو ينبع من تصورات واحتياجات نفسية حقيقية للغاية. عندما نتواصل وجها لوجه أو من خلال المكالمات الهاتفية، يكون هناك ميل للرغبة في ملء الصمت بأسرع ما يمكن، وقد تُشكِّل الرغبة في ملء الصمت هذه شعورا ضاغطا بشكل كبير بالنسبة للبعض. هنا تكون الرسائل النصية أو استخدام الدردشة الكتابية أكثر تسامحا، لأن التوقف فيها يكون متوقعا.
خلال التواصل بالرسائل النصية لا يكون هناك مجال للتواصل بالأعين، ولا مجال لرؤية لغة الجسد أو سماع نبرة الصوت، ورُبما لا حاجة إلى الرد الفوري، هذا التواصل يوفر مساحة كبيرة من “التباعد النفسي”.
يُشير مفهوم “التباعد النفسي” إلى قدرتنا على “التراجع بدون استجابة فورية، ومسح البيئة والتفكير في طريقة للتعامل بدلا من الشعور بالاحتياج إلى رد فعل فوري”. يصف التباعد النفسي مثلا قدرتنا على فصل أنفسنا عن الأشخاص الذين لا نحبهم، كما يمكن الإشارة إلى التباعد النفسي أيضا على أنه تقنية نفسية نمارسها حين نبتعد مسافة عن الموقف أو الشخص المُراد حتى نتمكن من اكتساب منظور مختلف. من خلال اكتساب المنظور، نكون أكثر قدرة على ضبط أنفسنا وانفعالاتنا، وهو ما قد يؤدي إلى ضبط علاقاتنا.
يمكن أن يساعدنا هذا التباعد أيضا في السيطرة على المشاعر السلبية. على سبيل المثال، قد يفعل الطرف الآخر شيئا يجعلك تشعر بالغضب، ساعتها، عندما يكون هناك مساحة من التباعد النفسي، ربما تدرك أن سلوك الشخص لا يبرر رد الفعل العاطفي الشديد الذي كنت ترغب في إبدائه للوهلة الأولى. يعمل التباعد النفسي مثل عدسة واسعة الزاوية تُمكِّننا من رؤية الأحداث والتجارب بشكل أكثر شمولا.
رُبما يفسر ما سبق ما أظهرته إحدى الدراسات من أن أولئك الذين يشعرون بالقلق عند التحدث على الهاتف يشعرون أن الرسائل النصية تتيح لهم أن يكونوا أكثر قدرة على التعبير.
رُهاب الهاتف!
إلى جانب ذلك، يؤكد تقرير نشره موقع “بي بي سي” (BBC) أن سماع رنين الهاتف قد يجعل البعض يشعر بالذعر، في ظاهرة تعارف المختصون على تسميتها بـ”رهاب الهاتف”، ورغم أننا نادرا ما نترك هواتفنا المحمولة من أيدينا هذه الأيام، فإن الكثير من الناس يُعانون من خوف حقيقي وعميق من إجراء مكالمة هاتفية.
رهاب الهاتف هو فرع من اضطرابات القلق الاجتماعي، وهو يحدث لأن الاتصال بالهاتف، بالنسبة للكثير من الأشخاص، يُعَدُّ تفاعلا معقدا بشكل خاص.
عليك أن تفكر في الأشياء بسرعة، وعليك أن ترد على ما يقوله لك الشخص الآخر. هناك بعض الأعراض العاطفية التي تُشير إلى الإصابة برُهاب الهاتف، منها ما يلي: تجنب إجراء المكالمات أو جعل الآخرين يتصلون بك، التأخير في إجراء المكالمات الهاتفية أو الرد عليها، القلق الزائد بشأن مضايقة الشخص الآخر، القلق الزائد بشأن ما ستقوله خلال المكالمة.
أيضا قد تشمل الأعراض الجسدية لرُهاب الهاتف ما يلي: زيادة معدل ضربات القلب، والغثيان، وصعوبة التركيز.
يشرح “مايكل لاندرز”، المدير العالمي لشركة “Culture Crossing”، وهي شركة استشارية تقدم المشورة للمجموعات والأفراد الذين يعملون في سياق عالمي، أن في بعض الثقافات يشعر الناس بالقلق من التحدث عبر الهاتف بشكل خاص. يقول لاندرز: “في اليابان، يشيع التردد بشأن التحدث إلى شخص لا تعرفه، فهم لا يريدون مضايقة شخص ما أو إحراج أنفسهم. في إندونيسيا،
يرسل الشخص العادي نحو مئة رسالة نصية كل يوم، في الوقت الذي يُعلن خلاله الناس أنهم يشعرون براحة أقل عند إجراء المكالمات. عبر مختلف الثقافات، يرتبط الخوف من الهاتف ارتباطا وثيقا بالخوف من الرفض”.
الانطوائيون.. أزمة خاصة
توضح صوفيا أن الانطوائيين قد يميلون إلى أن يكونوا أكثر بطئا في التفكير والاستجابة، هذا البطء لا يتناسب مع طبيعة المكالمات الهاتفية. (شترستوك)
يصبح هذا “الرهاب” أكثر حِدَّة مع الأشخاص الانطوائيين بطبعهم. “عندما يخترعون هاتفا ذكيا بما يكفي للتحدث نيابة عني، أخبرني بذلك”، هكذا عبَّرت صوفيا ديمبلنج، مؤلفة كتب “الطريقة الانطوائية: عيش حياة هادئة في عالم صاخب”، و”الانطوائيون في الحب: الطريق الهادئ إلى السعادة الأبدية”، عبر موقع “psychologytoday” عن ذلك الشعور المشترك لدى الكثير من الانطوائيين الذين يكرهون إجراء المكالمات الهاتفية كراهية خاصة.
رصدت صوفيا بعض الأسباب التي تدفع الانطوائيين إلى كراهية المكالمات الهاتفية، وعلى رأسها أنهم يعتبرون الهاتف “تقنية فضولية”، فعندما يرن الهاتف يكون رد الفعل المتوقع هو أن يترك الشخص ما في يده ويبتعد عمّا يشغل عقله لكي يرد المكالمة، ثم يُركز فقط على ما يقوله الشخص على الطرف الآخر من الخط، ثم بعد إنهاء المكالمة يمكن أن يعود الشخص للتركيز على ما كان يفعله. تصف صوفيا هذا باعتبارها واحدة من الشخصيات الانطوائية قائلة: “هذا يجعل عقلي يتألم، عقلي لا يتمكن من تغيير الاتجاه بسهولة هكذا”.
سبب آخر تُضيفه صوفيا، وهو أن معظم المكالمات الهاتفية عبارة عن ثرثرة يمكن وصفها بكونها “ضحلة” وليست عميقة. هنا يجب معرفة أن الانطوائيين لا يحبون هذا النوع من الدردشة، ويُفضلون المحادثات الحقيقية العميقة. لكن حتى المحادثات العميقة لا تجعل الانطوائيين يستسيغون المكالمات الهاتفية، تقول صوفيا عن هذا: “لدي أصدقاء أستطيع إجراء محادثات هاتفية عميقة معهم وأنا أستمتع بها، لكن هذه المكالمات تحتاج إلى وقت ليس بالقليل. عند إجراء هذا النوع من المكالمات، فإن يومي بأكمله يخرج عن مساره”.
توضح صوفيا أن الانطوائيين قد يميلون إلى أن يكونوا أكثر بطئا في التفكير والاستجابة، هذا البطء لا يتناسب مع طبيعة المكالمات الهاتفية، ففترات التوقف الطويلة لا تمر بشكل جيد خلال مكالمات الهاتف. تقول صوفيا: “إذا كنت على الهاتف مع شخص ثرثار، أجد صعوبة في التعبير عن رأيي، وينتهي بي الأمر إلى الاستماع الطويل، وبعد فترة أشعر بالملل”.
تصف صوفيا عقل الانطوائي بأنه مشغول دوما، وهو ما يجعل المكالمات الهاتفية عبئا زائدا لا يمكن احتماله، تقول صوفيا: “الاستماع إلى شيء ورؤية شيء آخر في الوقت نفسه يعني الكثير من المدخلات الحسية المتراكمة فوق كل ما يحدث بالفعل في رؤوسنا. هذا مرهق، وغالبا ما ينجرف ذهني ساعتها إلى أفكاره الخاصة؛ وهنا يجب عليّ أن أُجبره على العودة إلى المحادثة”.